![]() |
التجربة اليابانية ~ مدونة أفنان |
تلخيصي للكتاب:
من خلال كتاب التجربة اليابانية للدكتور سلمان بونعمان يسلط الضوء على الأسباب الرئيسية التي ساعدت اليابان على بناء حضارة متكاملة ذات مقومات خاصة مستمدة من تاريخ الشعب الياباني، وكذلك يبين كيف استطاعت اليابان بفضل سياساتها الإصلاحية تجنب الوقوع في شرك التقليد الأعمى والجمود الفكري أو ما يسمى باستيراد الحضارة وليس بناؤها،
في بداية الحديث عن النهضة بشكل عام، يبرز الكاتب أن رواد النهضة في العالم العربي انقسموا بين من يبخس الذات "الوحي والاعتماد على الدين" للوصول إلى ربط المجتمع بالغرب الناجح حضاريا، وبين من يعظمها ويتفاخر بها إلى غاية نفي الآخر،
ثم وللتخصيص يذكر شارل عيساوي خمس أسباب تتفوق فيها اليابان عن مصر: الموقع، التماسك الاجتماعي، الموارد البشرية الأكثر تقدماً، السعي المبكر نحو النمو الاقتصادي، القيادة الرشيدة. ويضيف أمرا آخر وهو الحد من الإنفاق على التسلح بسبب القرون الثلاث من السلام
والقول أن النهضة العربية واليابانية تشابهت بداياتها واختلفت نتائجها قول خاطئ، والمقارنة بين النهضتين هي مقارنة ساذجة حسب محمد أعفيف المؤرخ المغربي، في كتابه أصول التحديث في اليابان، لأنه يجب البحث في أصل النهضتين أولا،
فالنهضة اليابانية لم تبدأ من عهد حاكمها "الميجي" في القرن التاسع عشر، بل لها خلفيات فكرية عميقة منذ القرن السادس عشر، ساهم في تبلورها الاستقرار الذي نعمت به البلاد بسب موقعها الذي جعلها في منأى عن أي مستعمر، عكس الدول العربية التي ما فتأت ترزح تحت وطأة الاستعمار لقرون،
النهضة اليابانية تنقسم لمرحلتين هامتين: مرحلة "الميجي" الذي قام بإصلاحات كبيرة في مجالات الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة، إلا أن تحولها إلى نزعة عسكرية توسعية جعلها تنتهي باحتلال اليابان لأول مرة، وفقدانها للملايين من القتلى والمعوقين، أما المرحلة الثانية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، واتسمت بالبعد السلمي الاقتصادي الموجه للمجتمع في المقام الأول،
ينتقد الكاتب النظرة العربية "ممثلة في كُتابها" للنهضة اليابانية، مبينا أنها نظرة سطحية تفتقر للبحث العلمي الجاد، ويقسم في هذا الصدد المقاربات نحو النهضة اليابانية لقسمين:
المقاربة الانبهارية، وهي ما يتسم بالإعجاب والاستلاب بسرعة التطور الياباني، دون النظر في امتداده التاريخي، ودون النظر في جوانبه السلبية، إذ أنه أدى إلى ظهور عسكرتاريا يابانية ذات نزعة توسعية أشعلت حروب عدة وقامت بالاعتداء على الصين وكوريا، وارتكبت مجازر شنعاء جعلت من اليابان الحديث يحاول مرارا محو تلك الصفحة السوداء من تاريخه والاعتذار الرسمي لدول الجوار.
المقاربة التبسيطية الاختزالية: ويدعو أصحاب هذه النظرة إلى بعث التطور العلمي والتقني في الشعوب العربية لتلحق بركب الدول المتطورة، زاعمين أن تدريس العلوم والتقنيات سيؤثر حتما على التحول الاجتماعي والثقافي للأفراد، بدون الحاجة للمشاريع الإيديولوجية والمجتمعية لتحديث المجتمع، وهذه المقاربة طبعا فاقدة للرؤية الحضارية العميقة.
ثالثا: النموذج الأكثر تفسيرية: يرى هذا النموذج "الذي يبدو أنه هو رأي الكاتب" أن الانسياق وراء النموذج الياباني سيخلق نوعا من التبعية والجمود الفكري، الناتج عن التطبيق الأعمى، وأن الأجدى بنا التفريق بين روح النموذج وبين واقع النموذج، إذ أن روح النموذج وقيمه المؤسسة تتعالى عن الزمن والمكان، بينما واقع النموذج فهو يخضع بأي حال إلى خصوصياته الثقافية والحضارية والتاريخية والاجتماعية، وليس بالضرورة ما نجح في اليابان في زمن ما، سينجح عند العرب في زماننا هذا.
ويقرّ في الأخير إلى أن الثورة الفكرية والنهضة الثقافية هي التي تؤسس للتغيير الموضوعي.
ثم وللتخصيص يذكر شارل عيساوي خمس أسباب تتفوق فيها اليابان عن مصر: الموقع، التماسك الاجتماعي، الموارد البشرية الأكثر تقدماً، السعي المبكر نحو النمو الاقتصادي، القيادة الرشيدة. ويضيف أمرا آخر وهو الحد من الإنفاق على التسلح بسبب القرون الثلاث من السلام
والقول أن النهضة العربية واليابانية تشابهت بداياتها واختلفت نتائجها قول خاطئ، والمقارنة بين النهضتين هي مقارنة ساذجة حسب محمد أعفيف المؤرخ المغربي، في كتابه أصول التحديث في اليابان، لأنه يجب البحث في أصل النهضتين أولا،
فالنهضة اليابانية لم تبدأ من عهد حاكمها "الميجي" في القرن التاسع عشر، بل لها خلفيات فكرية عميقة منذ القرن السادس عشر، ساهم في تبلورها الاستقرار الذي نعمت به البلاد بسب موقعها الذي جعلها في منأى عن أي مستعمر، عكس الدول العربية التي ما فتأت ترزح تحت وطأة الاستعمار لقرون،
النهضة اليابانية تنقسم لمرحلتين هامتين: مرحلة "الميجي" الذي قام بإصلاحات كبيرة في مجالات الاقتصاد والسياسة والتعليم والثقافة، إلا أن تحولها إلى نزعة عسكرية توسعية جعلها تنتهي باحتلال اليابان لأول مرة، وفقدانها للملايين من القتلى والمعوقين، أما المرحلة الثانية فيما بعد الحرب العالمية الثانية، واتسمت بالبعد السلمي الاقتصادي الموجه للمجتمع في المقام الأول،
ينتقد الكاتب النظرة العربية "ممثلة في كُتابها" للنهضة اليابانية، مبينا أنها نظرة سطحية تفتقر للبحث العلمي الجاد، ويقسم في هذا الصدد المقاربات نحو النهضة اليابانية لقسمين:
المقاربة الانبهارية، وهي ما يتسم بالإعجاب والاستلاب بسرعة التطور الياباني، دون النظر في امتداده التاريخي، ودون النظر في جوانبه السلبية، إذ أنه أدى إلى ظهور عسكرتاريا يابانية ذات نزعة توسعية أشعلت حروب عدة وقامت بالاعتداء على الصين وكوريا، وارتكبت مجازر شنعاء جعلت من اليابان الحديث يحاول مرارا محو تلك الصفحة السوداء من تاريخه والاعتذار الرسمي لدول الجوار.
المقاربة التبسيطية الاختزالية: ويدعو أصحاب هذه النظرة إلى بعث التطور العلمي والتقني في الشعوب العربية لتلحق بركب الدول المتطورة، زاعمين أن تدريس العلوم والتقنيات سيؤثر حتما على التحول الاجتماعي والثقافي للأفراد، بدون الحاجة للمشاريع الإيديولوجية والمجتمعية لتحديث المجتمع، وهذه المقاربة طبعا فاقدة للرؤية الحضارية العميقة.
ثالثا: النموذج الأكثر تفسيرية: يرى هذا النموذج "الذي يبدو أنه هو رأي الكاتب" أن الانسياق وراء النموذج الياباني سيخلق نوعا من التبعية والجمود الفكري، الناتج عن التطبيق الأعمى، وأن الأجدى بنا التفريق بين روح النموذج وبين واقع النموذج، إذ أن روح النموذج وقيمه المؤسسة تتعالى عن الزمن والمكان، بينما واقع النموذج فهو يخضع بأي حال إلى خصوصياته الثقافية والحضارية والتاريخية والاجتماعية، وليس بالضرورة ما نجح في اليابان في زمن ما، سينجح عند العرب في زماننا هذا.
ويقرّ في الأخير إلى أن الثورة الفكرية والنهضة الثقافية هي التي تؤسس للتغيير الموضوعي.
في إرهاصات النهضة اليابانية يرى الكاتب أن عصر توكوغاوا "1603-1867" كان هو الأساس المتين لانطلاق النهضة واستمراريتها، إذ أن مستوى الإصلاحات في هذه الحقبة كان في أوجّه، وقد عرف استقرارا سياسيا وأمنيا واجتماعياً، نتج عنه بطبيعة الحال استقرار ونمو اقتصادي، بفعل بعض السياسات التي تبنتها اليابان، أبرزها سياسة العزلة منذ بداية القرن السابع عشر، والتي نصت مقتضياتها على تقييد سفر اليابانيين للخارج، ومنع المسيحية في البلاد وطرد المبشرين منها، ومنع الأجانب من الإقامة بها، واستمر هذا إلى غاية منتصف القرن التاسع عشر.
ثم بعد ذلك يسترسل الكاتب في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لليابان ومسار التعليم العام في عهد توكوغاوا ليبرز أن أسس النهضة كانت واضحة مذ ذلك الحين، وأن عصر توكوغاوا هو الحاضن لثورة النمو الياباني في عصر "الميجي".
ثم يذكر في الصفحة 54 فكرة في غاية الأهمية، حيث يقول: "...تواصُلُ أعداد مهمة من العلماء والباحثين اليابانيين مع الألمان في جلسات علمية قرب مركز تواجدهم الدائم في ناكازاكي، حيث تعلموا اللغة الألمانية وترجموا إلى اللغة اليابانية عددا من مستجدات البحوث العلمية خصوصا في مجالات صناعة الأسلحة النارية والطب والجغرافيا وعلم الفلك، الأمر الذي سمح بتطور بارز في العديد من المجلات العلمية..."
وهو دليل واضح على أن أحد أسس التطور هو الترجمة إلى اللغة الأم، ومن يقوم بذلك هم العلماء والباحثون. وهذا على عكس ما يتنطع به البعض هنا على أن اللغة العربية ليست لغة علوم، وللتطور أكثر يجب استخدام لغات أخرى كالفرنسية مثلا.
بعد ذلك يوضح الكاتب كيف أن اليابان قبل عصر "الميجي" بدأ بالانفتاح تدريجيا على الثقافتين، الصينية والغربية "الهولندية"، حيث استلهموا الجانب الروحي والفلسفة والحكم والقيم والنظرة للكون من الثقافة الصينية، واكتفوا بالجانب المادي كالعلوم والتكنولوجيا وعلوم السياسة والإدارة والتدبير المالي والعسكري من الجانب الغربي، إلا أن هذا لم يكن استنساخا أعمى، بل كان دائما يحوّر ويغير حتى يُعطى الطابع المحلي الذي يوافق الثقافة اليابانية.
هذا بالنسبة للانفتاح على العالم الخارجي، أما سياسة الانغلاق التي مارستها اليابان (1638- 1853) فكانت ردا على حملات التنصير التي طالت اليابانيين وأخذت بالتزايد شيئا فشيئا، إلى أن بلغت حدا أقلق السلطة هنالك "الشوغون"، فقامت بمنع المسيحية ومحاربة كل مظاهرها في اليابان بما في ذلك القضاء على اليابانيين المتنصرين، وطرد كل الأجانب ومنع التعامل معهم باستثناء بعض الألمان الذين حصر تواجدهم في ميناء ناجازاكي.
ويوضح الكاتب أن هذه العزلة الطوعية لم تكن عزلة بالمعنى المطلق تماماً، بل كانت عن قرار سياسي لتجنب الضغوطات الخارجية ولحل المشاكل الداخلية للبلاد بشكل مستقل، وهو ما حدث فعلا، ففي هذه المرحلة عرفت البلاد استقراراً و توحدا حول سلطة مركزية صارمة استطاعت بفضل سياستها أن تقود البلاد إلى التطور في عدة ميادين، خصوصا منها العسكرية التي أدت في الأخير إلى محاولة الاستيلاء على الصين وكوريا بالقوة.
ويصل بالقول أن ما أنجز من تراكم داخلي في مرحلة توكوغاوا في مختلف المجالات شكّل القاعدة العلمية الصلبة التي جنّبت اليابان سياسة القروض من الخارج وأسست لبناء نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية واسعة وغير قابلة للارتداد حتى في أشد ظروف الهيمنة الأمريكية التي حلّت باليابان في الحرب العالمية الثانية.
ثم بعد ذلك يسترسل الكاتب في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لليابان ومسار التعليم العام في عهد توكوغاوا ليبرز أن أسس النهضة كانت واضحة مذ ذلك الحين، وأن عصر توكوغاوا هو الحاضن لثورة النمو الياباني في عصر "الميجي".
ثم يذكر في الصفحة 54 فكرة في غاية الأهمية، حيث يقول: "...تواصُلُ أعداد مهمة من العلماء والباحثين اليابانيين مع الألمان في جلسات علمية قرب مركز تواجدهم الدائم في ناكازاكي، حيث تعلموا اللغة الألمانية وترجموا إلى اللغة اليابانية عددا من مستجدات البحوث العلمية خصوصا في مجالات صناعة الأسلحة النارية والطب والجغرافيا وعلم الفلك، الأمر الذي سمح بتطور بارز في العديد من المجلات العلمية..."
وهو دليل واضح على أن أحد أسس التطور هو الترجمة إلى اللغة الأم، ومن يقوم بذلك هم العلماء والباحثون. وهذا على عكس ما يتنطع به البعض هنا على أن اللغة العربية ليست لغة علوم، وللتطور أكثر يجب استخدام لغات أخرى كالفرنسية مثلا.
بعد ذلك يوضح الكاتب كيف أن اليابان قبل عصر "الميجي" بدأ بالانفتاح تدريجيا على الثقافتين، الصينية والغربية "الهولندية"، حيث استلهموا الجانب الروحي والفلسفة والحكم والقيم والنظرة للكون من الثقافة الصينية، واكتفوا بالجانب المادي كالعلوم والتكنولوجيا وعلوم السياسة والإدارة والتدبير المالي والعسكري من الجانب الغربي، إلا أن هذا لم يكن استنساخا أعمى، بل كان دائما يحوّر ويغير حتى يُعطى الطابع المحلي الذي يوافق الثقافة اليابانية.
هذا بالنسبة للانفتاح على العالم الخارجي، أما سياسة الانغلاق التي مارستها اليابان (1638- 1853) فكانت ردا على حملات التنصير التي طالت اليابانيين وأخذت بالتزايد شيئا فشيئا، إلى أن بلغت حدا أقلق السلطة هنالك "الشوغون"، فقامت بمنع المسيحية ومحاربة كل مظاهرها في اليابان بما في ذلك القضاء على اليابانيين المتنصرين، وطرد كل الأجانب ومنع التعامل معهم باستثناء بعض الألمان الذين حصر تواجدهم في ميناء ناجازاكي.
ويوضح الكاتب أن هذه العزلة الطوعية لم تكن عزلة بالمعنى المطلق تماماً، بل كانت عن قرار سياسي لتجنب الضغوطات الخارجية ولحل المشاكل الداخلية للبلاد بشكل مستقل، وهو ما حدث فعلا، ففي هذه المرحلة عرفت البلاد استقراراً و توحدا حول سلطة مركزية صارمة استطاعت بفضل سياستها أن تقود البلاد إلى التطور في عدة ميادين، خصوصا منها العسكرية التي أدت في الأخير إلى محاولة الاستيلاء على الصين وكوريا بالقوة.
ويصل بالقول أن ما أنجز من تراكم داخلي في مرحلة توكوغاوا في مختلف المجالات شكّل القاعدة العلمية الصلبة التي جنّبت اليابان سياسة القروض من الخارج وأسست لبناء نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية واسعة وغير قابلة للارتداد حتى في أشد ظروف الهيمنة الأمريكية التي حلّت باليابان في الحرب العالمية الثانية.
ثورة الإصلاحات في عهد الميجي
في بداية الفصل يفنّد الكاتب مزاعم الغرب أن لهم الفضل في أن بداية النهضة اليابانية كانت من الإنذار الأمريكي ، وهذا أساساً على ما بيّنه في الفصل الأول.
ففي 1853 أرسل الكومنودر الأمريكي "بيري" إنذارا لليابان يقضي بفتح موانئها على الملاحة الدولية، سلماً أو بالقوة، وأجبرت اليابان على إمضاء اتفاقيات مُذلّة "اتفاقيات الصداقة" مع الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول أوربا، وأبرزُ ما جاء في هذه الاتفاقيات هو رفض الأجانب في اليابان للمثول أمام المحاكم اليابانية، والخضوع لقوانينها، حيث أنهم لا يحاكمون إلا بقوانين بلدانهم، وأمام قنصلياتهم فقط، وهو ما كان انتقاصا حقيقيا للسيادة اليابانية، نتج عنه فيما بعد تخلي اليابان عن سياسة العزلة، وحفزّ المفكرين والباحثين اليابانيين للعمل أكثر على إيجاد سبل التصدي للغزو الغربي وحماية البلاد من الحملات الموجهة ضدها.
وقد شكل إنذار بيري نقطة تحول في تاريخ اليابان بدأ بتخلي البلاد عن سياسة العزلة طيلة 250 سنة، وبداية العمل الحقيقي لتصليب الجبهة الداخلية وتقويتها للتصدي لأي محاولة من الدول الغربية، وكانت بداية هذا التغيير في إسقاط حكم عائلة توكوغاوا سلمياً والالتفاف حول الإمبراطور "الميجي" ثم الاشتغال الجدي لبناء مجتمع عصري قادر على المجابهة على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
بدأ الإصلاح الحقيقي في عهد الإمبراطور الميجي بجمع أكثر من أربعمائة مستشار من مختلف الطبقات والشرائح العمرية، بعضهم كانوا من الساموراي، والبعض الآخر من النظام القديم "الشوغون" أرادوا المساهمة في النهضة الإصلاحية التي كانت على وشك أن تبدأ كردة فعل على الاعتداء على السيادة الوطنية للبلاد.
شملت قرارات الإصلاح التي اتخذها الميجي العديد من المجالات، ولعلّ أبرزها هو أُسس الإصلاح الخمس التي أقرّها سنة 1868 التي نصت على تأسيس مجلس تمثيلي وضمان حرية الرأي والعمل والتجمع، وإلغاء التقاليد الطبقية الموروثة بشكل تدريجي، وتنشيط المجال الثقافي مع الانفتاح على العلوم العصرية الغربية ، كما ألغيت المقاطعات وظهر البرلمان وعرفت البلاد الدستور القومي، كما صدر قانون إجبارية التعليم سنة 1872 أي بعد سنتين فقط من صدوره في انجلترا، و أنشأت جامعة طوكيو وأصدر الساموراي كذلك أول جريدة عصرية، وظهر قانون الرقابة كذلك، كما صدر عفوٌ عام عن المتمردين على الإمبراطور الميجي، وعرفت الزراعة كذلك إصلاحات جذرية كبيرة.
ويظهر الكاتب الدور الهام الذي لعبه الساموراي منذ عهد توكوغاوا في الإصلاح، ومساهمتهم الفعالة في عصر الميجي كذلك، خصوصا في مجال التعليم.
يقول الكاتب أن الإصلاح في اليابان بُني على ثلاث محاور أساسية: بناء جيش عصري، إحداث تغيير جذري في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والحفاظ على الهوية اليابانية... تحت الشعار المشهور: "التكنيك غربي، أما الروح فيابانية"
ويبرز أن هذه المحاور طبقت بالفعل، وأبرز تجلياتها ولادة المدن اليابانية الحديثة، مع تغيير جوهري في تقاليد السكن واللباس والطعام وغيرها، كما تظهر في الجيش العصري الذي أصبح من أقوى الجيوش الآسيوية في غضون سنوات فقط بفضل تضافر جهود الدولة وتكتلات زيباتسو. وكذلك فقد كان للتحديث الصناعي في تلك الحقبة الأولوية المطلقة باعتباره السياسة الاقتصادية لليابان طوال القرن العشرين، حيث تركزت القيم العليا للمجتمع على العمل والإنتاج، وأُعطيت الكفاءات الشخصية مكانتها بديلا عن الموروث الاجتماعي في التوظيف والترقية.
ويبيّن كذلك أن الحرص على حماية الهوية الوطنية تجلى في ظهور الإيديولوجية القومية "الكوكوتاي" التي تقدس الشعب الياباني وتبجل الإمبراطور باعتباره رمز لليابان.
هذا على العموم، ثم يبدأ الكاتب في تناول أهم مرتكزات النهضة اليابانية بالترتيب. وقد جعل المرتكز الأول هو المعرفة.
المعرفة أساس النهضة والتحرر: فقد آمن دعاة الإصلاح في اليابان بأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نهضة حضارية إلا انطلاقا من "أسس فكرية" يشترك في تحقيقها ويتبناها - إما صراحة أو ضمنياً- كافة أو غالبية أفراد المجتمع.
وأدركوا موقع التعليم في تطور الرأسمال المعرفي وفي تقليص الفجوة بين اليابان والدول المتطورة، ومن ثمّ فقد استفادوا من الخبرة الحضارية التاريخية المتراكمة خلال مرحلة توكوغاوا، وسعوا إلى تجاوز منطقها المنغلق على الذات، مع الحرص على عدم القطيعة مع التراث الثقافي الياباني.
وقد تمّ وضع أسس البنيان التربوي منذ سنة 1886 و الشروع في تفعيل ذلك من خلال التخطيط للمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد بأنواعها وكليات إعداد وتدريب المعلمين، وقد حمل صغار الساموراي راية التعليم في البلاد في انتظار عودة البعثات الثقافية من الخارج ليتسلم أفرادها أعلى المراتب في الجهاز التعليمي والإداري، كما تمّ فتح الباب أما الفتيات للتعلم والعمل.
وهذا ما تحقق بالفعل من خلال نسبة الالتحاق بالمدارس التي جاوزت التسعين في المائة سنة 1907، والملاحظ أن اليابان مع كل هذا النهم العلمي الذي بعثته في الشعب، إلا أنها حرصت كلّ الحرص على غرس الروح الوطنية و تمجيد الإمبراطور لدى المتعلمين من خلال إدماج الخبرة اليابانية ذات الخصائص القومية مع المناهج التعليمية آنذاك، وكذلك احتكار التعليم ومركزيته لدى الدولة وعدم السماح للمؤسسات التعليمية الغربية بالعمل في اليابان طوال تلك المرحلة.
والملاحظ أن اليابان انكبت على الترجمة دون تمييز في نهاية القرن التاسع عشر، إلى درجة أنه تم ترجمة الكتب المدرسية واستعمالها في المدارس، وجلب العديد من المدرسين والمستشارين الأجانب، وهو ما لم يكن له الأثر الإيجابي بالضرورة، وقد تمّ تدارك ذلك في ثمانينيات القرن التاسع عشر وذلك عن طريق توفير كتب مدرسية جديدة و إحلال المدرسين اليابانيين مكان الأجانب وأصبحت اليابانية لغة التدريس.
ثم يبدأ الكاتب في شرح انعكاس النهضة في مجال التعليم على المجالات الأخرى، ضاربا أمثلة مبسطة عن ذلك كنموذج قطاع الحرير في اليابان، ثم انعكاسها على المجال الثقافي، بظهور الجمعيات الثقافية و رعايتها للثقافات الشعبية مع ممارستها أنشطة التدريب على الفكر الغربي المعاصر من خلال المقاهي الأدبية والندوات والجلسات العلمية والاجتماعات السياسية، مما ساهم في تخفيف الشعور بالضغينة الذي تكنّه الطبقات الدنيا للحضارة والتنوير.
وقد سئل الإمبراطور الياباني "الميجي" عن أهم أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير، قال: "بدأنا من حيث ما انتهى منه الآخرون وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير"، وهذا لوحده كافٍ ليعطي صورة واضحة لما كان للتعليم من قداسة واحترام لدى اليابانيين وليدعم رأي الكاتب في أن المعرفة أساس كل نهضة وتحرر.
ويلخص الكاتب ثلاث محاور رئيسية اعتمدت عليها النهضة العلمية في اليابان:
أولا: الاستعانة بالعلماء والمعلمين الأوربيين ودعوة الخبراء والفنيين من الدول المتقدمة إلى اليابان.
ثانيا : ترجمة الكتب إلى اللغة اليابانية وإنشاء المدارس الحديثة.
ثالثاً: إرسال البعثات العلمية اليابانية إلى الدول المتقدمة لينهلوا من مختلف العلوم هنالك وخصوصا منها المناهج الألمانية التي كانت توافق كثيرا خصوصيات المجتمع الياباني وأهداف التعليم كذلك، وقد أدى هذا إلى بروز العديد من العلماء اليابانيين على الصعيد العالمي، على غرار عالم البكتيريا "كيتا صاتو" والعالم الكبير في الطب "شيجا كيوشي" وعالم المعادن الكبير "هوندا كوطارو".
و يعود لذكر النقطة الهامة التي أشار إليها سابقا فيما يخص اللغة اليابانية: "لقد أفادت اليابان من الترجمة بوصفها وسيلة هامة في استيعاب العلوم والثقافات الأجنبية، لكنّها فطنت إلى أن إبداع أي أمة لا يكون إلا بلغتها الوطنية، فاستطاعت بناء تعليم حديث داخل حيّز اللغة اليابانية ونطاق الهوية القومية يبني الشخصية اليابانية الوطنية المبدعة."
استنبات التكنولوجيا والاستفادة من الغرب: إدراكاً منهم بأن اليابان متأخرة تكنولوجيا عن الدول الغربية، شجع قادة الإصلاح على اقتباس مستجدات علوم وتكنولوجيا الغرب الحديثة، ولكن لكن في الوقت نفسه تجنبوا الارتهان إلى التغريب الثقافي والانبهار الحضاري المفضي إلى الهزيمة النفسية والاحتلال المادي "أقول وهذا ما يحدث في دول الخليج مثلاً، فلا يصح أن نسميها دولاً متطورة، لأنها حضارتها هي حضارة مستوردة على كل حال، لا تعكس أبداً تطور المجتمع ورقيه هنالك".
وهكذا استقدم اليابانيون آلاف الخبراء والعلماء والاختصاصيين، ووفروا لهم كل الظروف الملائمة للعمل في اليابان، حتى أن بعضهم كان يُعطى أجوراً تفوق أجور الوزراء، وركزت السلطة على إرسال البعثات العلمية لكل بقاع العالم من أجل الاطلاع على تلك التكنولوجيا واكتسابها ثمّ توظيفها لما يخدم الحضارة اليابانية.
كما يبيّن الكاتب أن اليابانيين كانوا يقومون بإعادة تصنيع التكنولوجيا المستوردة، بدءًا من تعلم طرق تشغيل وصيانة وتفكيك الآلات المستوردة، وصولاُ إلى إنتاج آلات شبيهة تلائم حاجيات البلاد.
والجدير بالذكر أن سياسة استيراد التكنولوجيا المتطورة لم تبدأ من عصر "الميجي" فقط، بل كانت منذ القدم في عصر الإقطاعات، إلا أن الغالب عليها أنها كانت تهتم بالجانب العسكري فقط.
غير أن التجربة اليابانية لم تكن تلك التجربة "المعجزة" أو "اللاسُننية" كما قد يُنظـّر له البعض، بل هي تجربة بشرية واجتهاد نسبي، له إخفاقاته ونجاحاته في محاولاته المستميتة في اللحاق بركب الحضارة، والدليل في ذلك هو إخفاق جل المحاولات التصنيعية في البداية وانهيار الشركات وإغلاق مصانع النسيج، والمصاهر المعدنية، ومصانع الحديد والصلب، فخلال عشر سنوات أفلس ما يقارب ألفًا من مصانع النسيج والقطن، وكانت له آثار اجتماعية قاسية... لكن قوة اليابان كانت في إصرارها على المحاولة والمراجعة النقدية لخطواتها الإصلاحية، وبحثها الدائم عن أسباب الإخفاق وسبل النجاح.
وقد اتسم إدخال التقنية لليابان بأسبقية الجانب العسكري على الجوانب الأخرى، وكان هذا كرد فعل على الاعتداء على سيادة اليابان وشؤونها الداخلية، وهي على عكس الدول الأوروبية بدأت نهضتها بالصناعات الثقيلة كصناعة الحديد والصلب والآلات والسكك الحديدية، لكنّها كانت دائما تحاول أن تحوّر هذه التكنولوجيا بما يتلاءم والمجتمع الياباني متخذة المقولة الشهيرة "التكنيك غربي، والروح يابانية" شعاراً لها.
الإنسان الياباني فاعلاً في النهضة وحاملاً للمعنى: يرى الكاتب أن أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ سعت الروية النهضوية اليابانية إلى بناء إنسان قابل للانتصار على الطبيعة المادية و تجاوزها إلى آفاق أرحب، وتُعد اليابان في طليعة الدول التي استثمرت في "الرأسمال البشري" عن طريق التعليم والتدريب والعمل. يقول السفير الأمريكي "أدوين رايشاور" في كتابه "اليابانيون" : إن سر نهوض اليابان شيئان اثنان، هما: إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم والثقافة.
ولعلّ أروع وأبلغ مثال عن هذا الإنسان يتجلّى في قصة الشاب "تاكيو أوساهيرا" التي يسردها الكاتب تحت هذا العنوان.
في بداية الفصل يفنّد الكاتب مزاعم الغرب أن لهم الفضل في أن بداية النهضة اليابانية كانت من الإنذار الأمريكي ، وهذا أساساً على ما بيّنه في الفصل الأول.
ففي 1853 أرسل الكومنودر الأمريكي "بيري" إنذارا لليابان يقضي بفتح موانئها على الملاحة الدولية، سلماً أو بالقوة، وأجبرت اليابان على إمضاء اتفاقيات مُذلّة "اتفاقيات الصداقة" مع الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول أوربا، وأبرزُ ما جاء في هذه الاتفاقيات هو رفض الأجانب في اليابان للمثول أمام المحاكم اليابانية، والخضوع لقوانينها، حيث أنهم لا يحاكمون إلا بقوانين بلدانهم، وأمام قنصلياتهم فقط، وهو ما كان انتقاصا حقيقيا للسيادة اليابانية، نتج عنه فيما بعد تخلي اليابان عن سياسة العزلة، وحفزّ المفكرين والباحثين اليابانيين للعمل أكثر على إيجاد سبل التصدي للغزو الغربي وحماية البلاد من الحملات الموجهة ضدها.
وقد شكل إنذار بيري نقطة تحول في تاريخ اليابان بدأ بتخلي البلاد عن سياسة العزلة طيلة 250 سنة، وبداية العمل الحقيقي لتصليب الجبهة الداخلية وتقويتها للتصدي لأي محاولة من الدول الغربية، وكانت بداية هذا التغيير في إسقاط حكم عائلة توكوغاوا سلمياً والالتفاف حول الإمبراطور "الميجي" ثم الاشتغال الجدي لبناء مجتمع عصري قادر على المجابهة على جميع الأصعدة العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
بدأ الإصلاح الحقيقي في عهد الإمبراطور الميجي بجمع أكثر من أربعمائة مستشار من مختلف الطبقات والشرائح العمرية، بعضهم كانوا من الساموراي، والبعض الآخر من النظام القديم "الشوغون" أرادوا المساهمة في النهضة الإصلاحية التي كانت على وشك أن تبدأ كردة فعل على الاعتداء على السيادة الوطنية للبلاد.
شملت قرارات الإصلاح التي اتخذها الميجي العديد من المجالات، ولعلّ أبرزها هو أُسس الإصلاح الخمس التي أقرّها سنة 1868 التي نصت على تأسيس مجلس تمثيلي وضمان حرية الرأي والعمل والتجمع، وإلغاء التقاليد الطبقية الموروثة بشكل تدريجي، وتنشيط المجال الثقافي مع الانفتاح على العلوم العصرية الغربية ، كما ألغيت المقاطعات وظهر البرلمان وعرفت البلاد الدستور القومي، كما صدر قانون إجبارية التعليم سنة 1872 أي بعد سنتين فقط من صدوره في انجلترا، و أنشأت جامعة طوكيو وأصدر الساموراي كذلك أول جريدة عصرية، وظهر قانون الرقابة كذلك، كما صدر عفوٌ عام عن المتمردين على الإمبراطور الميجي، وعرفت الزراعة كذلك إصلاحات جذرية كبيرة.
ويظهر الكاتب الدور الهام الذي لعبه الساموراي منذ عهد توكوغاوا في الإصلاح، ومساهمتهم الفعالة في عصر الميجي كذلك، خصوصا في مجال التعليم.
يقول الكاتب أن الإصلاح في اليابان بُني على ثلاث محاور أساسية: بناء جيش عصري، إحداث تغيير جذري في قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، والحفاظ على الهوية اليابانية... تحت الشعار المشهور: "التكنيك غربي، أما الروح فيابانية"
ويبرز أن هذه المحاور طبقت بالفعل، وأبرز تجلياتها ولادة المدن اليابانية الحديثة، مع تغيير جوهري في تقاليد السكن واللباس والطعام وغيرها، كما تظهر في الجيش العصري الذي أصبح من أقوى الجيوش الآسيوية في غضون سنوات فقط بفضل تضافر جهود الدولة وتكتلات زيباتسو. وكذلك فقد كان للتحديث الصناعي في تلك الحقبة الأولوية المطلقة باعتباره السياسة الاقتصادية لليابان طوال القرن العشرين، حيث تركزت القيم العليا للمجتمع على العمل والإنتاج، وأُعطيت الكفاءات الشخصية مكانتها بديلا عن الموروث الاجتماعي في التوظيف والترقية.
ويبيّن كذلك أن الحرص على حماية الهوية الوطنية تجلى في ظهور الإيديولوجية القومية "الكوكوتاي" التي تقدس الشعب الياباني وتبجل الإمبراطور باعتباره رمز لليابان.
هذا على العموم، ثم يبدأ الكاتب في تناول أهم مرتكزات النهضة اليابانية بالترتيب. وقد جعل المرتكز الأول هو المعرفة.
المعرفة أساس النهضة والتحرر: فقد آمن دعاة الإصلاح في اليابان بأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق نهضة حضارية إلا انطلاقا من "أسس فكرية" يشترك في تحقيقها ويتبناها - إما صراحة أو ضمنياً- كافة أو غالبية أفراد المجتمع.
وأدركوا موقع التعليم في تطور الرأسمال المعرفي وفي تقليص الفجوة بين اليابان والدول المتطورة، ومن ثمّ فقد استفادوا من الخبرة الحضارية التاريخية المتراكمة خلال مرحلة توكوغاوا، وسعوا إلى تجاوز منطقها المنغلق على الذات، مع الحرص على عدم القطيعة مع التراث الثقافي الياباني.
وقد تمّ وضع أسس البنيان التربوي منذ سنة 1886 و الشروع في تفعيل ذلك من خلال التخطيط للمدارس الابتدائية والثانوية والمعاهد بأنواعها وكليات إعداد وتدريب المعلمين، وقد حمل صغار الساموراي راية التعليم في البلاد في انتظار عودة البعثات الثقافية من الخارج ليتسلم أفرادها أعلى المراتب في الجهاز التعليمي والإداري، كما تمّ فتح الباب أما الفتيات للتعلم والعمل.
وهذا ما تحقق بالفعل من خلال نسبة الالتحاق بالمدارس التي جاوزت التسعين في المائة سنة 1907، والملاحظ أن اليابان مع كل هذا النهم العلمي الذي بعثته في الشعب، إلا أنها حرصت كلّ الحرص على غرس الروح الوطنية و تمجيد الإمبراطور لدى المتعلمين من خلال إدماج الخبرة اليابانية ذات الخصائص القومية مع المناهج التعليمية آنذاك، وكذلك احتكار التعليم ومركزيته لدى الدولة وعدم السماح للمؤسسات التعليمية الغربية بالعمل في اليابان طوال تلك المرحلة.
والملاحظ أن اليابان انكبت على الترجمة دون تمييز في نهاية القرن التاسع عشر، إلى درجة أنه تم ترجمة الكتب المدرسية واستعمالها في المدارس، وجلب العديد من المدرسين والمستشارين الأجانب، وهو ما لم يكن له الأثر الإيجابي بالضرورة، وقد تمّ تدارك ذلك في ثمانينيات القرن التاسع عشر وذلك عن طريق توفير كتب مدرسية جديدة و إحلال المدرسين اليابانيين مكان الأجانب وأصبحت اليابانية لغة التدريس.
ثم يبدأ الكاتب في شرح انعكاس النهضة في مجال التعليم على المجالات الأخرى، ضاربا أمثلة مبسطة عن ذلك كنموذج قطاع الحرير في اليابان، ثم انعكاسها على المجال الثقافي، بظهور الجمعيات الثقافية و رعايتها للثقافات الشعبية مع ممارستها أنشطة التدريب على الفكر الغربي المعاصر من خلال المقاهي الأدبية والندوات والجلسات العلمية والاجتماعات السياسية، مما ساهم في تخفيف الشعور بالضغينة الذي تكنّه الطبقات الدنيا للحضارة والتنوير.
وقد سئل الإمبراطور الياباني "الميجي" عن أهم أسباب تقدم دولته في هذا الوقت القصير، قال: "بدأنا من حيث ما انتهى منه الآخرون وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير"، وهذا لوحده كافٍ ليعطي صورة واضحة لما كان للتعليم من قداسة واحترام لدى اليابانيين وليدعم رأي الكاتب في أن المعرفة أساس كل نهضة وتحرر.
ويلخص الكاتب ثلاث محاور رئيسية اعتمدت عليها النهضة العلمية في اليابان:
أولا: الاستعانة بالعلماء والمعلمين الأوربيين ودعوة الخبراء والفنيين من الدول المتقدمة إلى اليابان.
ثانيا : ترجمة الكتب إلى اللغة اليابانية وإنشاء المدارس الحديثة.
ثالثاً: إرسال البعثات العلمية اليابانية إلى الدول المتقدمة لينهلوا من مختلف العلوم هنالك وخصوصا منها المناهج الألمانية التي كانت توافق كثيرا خصوصيات المجتمع الياباني وأهداف التعليم كذلك، وقد أدى هذا إلى بروز العديد من العلماء اليابانيين على الصعيد العالمي، على غرار عالم البكتيريا "كيتا صاتو" والعالم الكبير في الطب "شيجا كيوشي" وعالم المعادن الكبير "هوندا كوطارو".
و يعود لذكر النقطة الهامة التي أشار إليها سابقا فيما يخص اللغة اليابانية: "لقد أفادت اليابان من الترجمة بوصفها وسيلة هامة في استيعاب العلوم والثقافات الأجنبية، لكنّها فطنت إلى أن إبداع أي أمة لا يكون إلا بلغتها الوطنية، فاستطاعت بناء تعليم حديث داخل حيّز اللغة اليابانية ونطاق الهوية القومية يبني الشخصية اليابانية الوطنية المبدعة."
استنبات التكنولوجيا والاستفادة من الغرب: إدراكاً منهم بأن اليابان متأخرة تكنولوجيا عن الدول الغربية، شجع قادة الإصلاح على اقتباس مستجدات علوم وتكنولوجيا الغرب الحديثة، ولكن لكن في الوقت نفسه تجنبوا الارتهان إلى التغريب الثقافي والانبهار الحضاري المفضي إلى الهزيمة النفسية والاحتلال المادي "أقول وهذا ما يحدث في دول الخليج مثلاً، فلا يصح أن نسميها دولاً متطورة، لأنها حضارتها هي حضارة مستوردة على كل حال، لا تعكس أبداً تطور المجتمع ورقيه هنالك".
وهكذا استقدم اليابانيون آلاف الخبراء والعلماء والاختصاصيين، ووفروا لهم كل الظروف الملائمة للعمل في اليابان، حتى أن بعضهم كان يُعطى أجوراً تفوق أجور الوزراء، وركزت السلطة على إرسال البعثات العلمية لكل بقاع العالم من أجل الاطلاع على تلك التكنولوجيا واكتسابها ثمّ توظيفها لما يخدم الحضارة اليابانية.
كما يبيّن الكاتب أن اليابانيين كانوا يقومون بإعادة تصنيع التكنولوجيا المستوردة، بدءًا من تعلم طرق تشغيل وصيانة وتفكيك الآلات المستوردة، وصولاُ إلى إنتاج آلات شبيهة تلائم حاجيات البلاد.
والجدير بالذكر أن سياسة استيراد التكنولوجيا المتطورة لم تبدأ من عصر "الميجي" فقط، بل كانت منذ القدم في عصر الإقطاعات، إلا أن الغالب عليها أنها كانت تهتم بالجانب العسكري فقط.
غير أن التجربة اليابانية لم تكن تلك التجربة "المعجزة" أو "اللاسُننية" كما قد يُنظـّر له البعض، بل هي تجربة بشرية واجتهاد نسبي، له إخفاقاته ونجاحاته في محاولاته المستميتة في اللحاق بركب الحضارة، والدليل في ذلك هو إخفاق جل المحاولات التصنيعية في البداية وانهيار الشركات وإغلاق مصانع النسيج، والمصاهر المعدنية، ومصانع الحديد والصلب، فخلال عشر سنوات أفلس ما يقارب ألفًا من مصانع النسيج والقطن، وكانت له آثار اجتماعية قاسية... لكن قوة اليابان كانت في إصرارها على المحاولة والمراجعة النقدية لخطواتها الإصلاحية، وبحثها الدائم عن أسباب الإخفاق وسبل النجاح.
وقد اتسم إدخال التقنية لليابان بأسبقية الجانب العسكري على الجوانب الأخرى، وكان هذا كرد فعل على الاعتداء على سيادة اليابان وشؤونها الداخلية، وهي على عكس الدول الأوروبية بدأت نهضتها بالصناعات الثقيلة كصناعة الحديد والصلب والآلات والسكك الحديدية، لكنّها كانت دائما تحاول أن تحوّر هذه التكنولوجيا بما يتلاءم والمجتمع الياباني متخذة المقولة الشهيرة "التكنيك غربي، والروح يابانية" شعاراً لها.
الإنسان الياباني فاعلاً في النهضة وحاملاً للمعنى: يرى الكاتب أن أعظم اكتشافات اليابان هو الإنسان ذاته، إذ سعت الروية النهضوية اليابانية إلى بناء إنسان قابل للانتصار على الطبيعة المادية و تجاوزها إلى آفاق أرحب، وتُعد اليابان في طليعة الدول التي استثمرت في "الرأسمال البشري" عن طريق التعليم والتدريب والعمل. يقول السفير الأمريكي "أدوين رايشاور" في كتابه "اليابانيون" : إن سر نهوض اليابان شيئان اثنان، هما: إرادة الانتقام من التاريخ، وبناء الإنسان الذي كرسه نظام التعليم والثقافة.
ولعلّ أروع وأبلغ مثال عن هذا الإنسان يتجلّى في قصة الشاب "تاكيو أوساهيرا" التي يسردها الكاتب تحت هذا العنوان.
رهانات التفكير في النموذج الياباني.
يظهر المؤلف في بداية الفصل مفهوم التحديث والحداثة، من حيث أن الأول هو اقتباس للعلوم الغربية وأن الثاني هو استيعاب لهذه العلوم والمشاركة في تطويرها، وبيّن كذلك أن اليابان نجحت لأنها لم تتخل عن تراثها التقليدي، ولم تتبنّ أي من المبادئ الغربية وتجعلها قواعد ثابتة في الحياة، بل اختارت ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني فقط.
ثم يوضح بعد ذلك طبيعة العلاقة بين الإنسان الياباني والحضارة الغربية، وبين المسلمين والحضارة الغربية كذلك، إذ يلخصها في المثال الذي ضربه المفكر مالك بن نبي، أن الياباني يقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، بينما العربي المسلم يقف منها موقف الزبون، وهو الفرق الجوهري الذي يفصل بين استيعاب الحضارة والمشاركة في بنائها وبين شرائها والتبعية لها، فهم اهتموا بالأفكار "اللب" ونحن اهتممنا بالأشياء المادية "القشور".
إذن فحسبه فالمجتمع المتخلف لا تنقصه الوسائل المادية، وإنما يفتقر للأفكار. ويتعين على الأمة الطامحة للنهضة أن تتحول إلى فضاء للثقافة ومدرسة يتاح فيها لكل فرد أن يتعلم ويُعلّم، ومختبر يتم فيه إعداد القيم الثقافية المتطابقة مع ضرورات النمو، فـ "على عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص" أو باختصار ما أورده مالك بن نبي: "الثقافة لا تستورد بنقلها من مكان إلى مكان آخر، بل يجب خلقها في المكان نفسه".
إن التجربة اليابانية قامت بتفكيك الآليات الغربية وأقلمتها لها محليا بما يتناسب مع خصائص مجتمعاتها، ويتضح الاختلاف الثقافي والقيمي مثلا في أسلوب الإدارة في الشركات والمصانع اليابانية التي تعتمد على اتخاذ القرارات بشكل جماعي في عدة مستويات وإشراك الموظفين الصغار في العملية الإدارية، وعلى ضبط نوعية الإنتاج أسفل الهرم لا من أعلاه وهذا مخالف للنموذج الأمريكي الذي يعتقد البعض أن اليابانيين قاموا بتقليده، بل العكس هو الصحيح إذ حاولت الشركات الأمريكية تقليده ولكنها لم تفلح في استنساخه لغرابته وخصوصيته الثقافية.
ثم يستطرد في شرح علاقة الموظف الياباني بشركته والأمريكي بشركته ويوضح الفرق الجوهري بينهما وما ينعكس به ذلك على الإنتاج.
وهو بهذا يريد أن يخلص إلى أن اليابان نهضت على أسس ثقافية تكاد تكون مخالفة للمسلمات الثقافية الغربية، إذ أنها لم تقم على تهديم البنى التقليدية أو عبر التخلي عن القيم الثقافية الخاصة، بل على العكس جرى توظيفها في أسس النهوض.
يظهر المؤلف في بداية الفصل مفهوم التحديث والحداثة، من حيث أن الأول هو اقتباس للعلوم الغربية وأن الثاني هو استيعاب لهذه العلوم والمشاركة في تطويرها، وبيّن كذلك أن اليابان نجحت لأنها لم تتخل عن تراثها التقليدي، ولم تتبنّ أي من المبادئ الغربية وتجعلها قواعد ثابتة في الحياة، بل اختارت ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني فقط.
ثم يوضح بعد ذلك طبيعة العلاقة بين الإنسان الياباني والحضارة الغربية، وبين المسلمين والحضارة الغربية كذلك، إذ يلخصها في المثال الذي ضربه المفكر مالك بن نبي، أن الياباني يقف من الحضارة الغربية موقف التلميذ، بينما العربي المسلم يقف منها موقف الزبون، وهو الفرق الجوهري الذي يفصل بين استيعاب الحضارة والمشاركة في بنائها وبين شرائها والتبعية لها، فهم اهتموا بالأفكار "اللب" ونحن اهتممنا بالأشياء المادية "القشور".
إذن فحسبه فالمجتمع المتخلف لا تنقصه الوسائل المادية، وإنما يفتقر للأفكار. ويتعين على الأمة الطامحة للنهضة أن تتحول إلى فضاء للثقافة ومدرسة يتاح فيها لكل فرد أن يتعلم ويُعلّم، ومختبر يتم فيه إعداد القيم الثقافية المتطابقة مع ضرورات النمو، فـ "على عتبة حضارة ما، ليس هو عالم الأشياء الذي يتبدل، بل بصورة أساسية عالم الأشخاص" أو باختصار ما أورده مالك بن نبي: "الثقافة لا تستورد بنقلها من مكان إلى مكان آخر، بل يجب خلقها في المكان نفسه".
إن التجربة اليابانية قامت بتفكيك الآليات الغربية وأقلمتها لها محليا بما يتناسب مع خصائص مجتمعاتها، ويتضح الاختلاف الثقافي والقيمي مثلا في أسلوب الإدارة في الشركات والمصانع اليابانية التي تعتمد على اتخاذ القرارات بشكل جماعي في عدة مستويات وإشراك الموظفين الصغار في العملية الإدارية، وعلى ضبط نوعية الإنتاج أسفل الهرم لا من أعلاه وهذا مخالف للنموذج الأمريكي الذي يعتقد البعض أن اليابانيين قاموا بتقليده، بل العكس هو الصحيح إذ حاولت الشركات الأمريكية تقليده ولكنها لم تفلح في استنساخه لغرابته وخصوصيته الثقافية.
ثم يستطرد في شرح علاقة الموظف الياباني بشركته والأمريكي بشركته ويوضح الفرق الجوهري بينهما وما ينعكس به ذلك على الإنتاج.
وهو بهذا يريد أن يخلص إلى أن اليابان نهضت على أسس ثقافية تكاد تكون مخالفة للمسلمات الثقافية الغربية، إذ أنها لم تقم على تهديم البنى التقليدية أو عبر التخلي عن القيم الثقافية الخاصة، بل على العكس جرى توظيفها في أسس النهوض.
استفادت اليابان من التراكمات الثقافية من عصر توكوغاوا واستطاعت بفضل الإرادة القوية أن تلحق بالركب و تستوعب الحضارة الغربية في عصر "الميجي"، بدون أن تحدث القطيعة مع ماضيها وبدون أن تدمر مقومات المجتمع الياباني وخصائصه، بل استطاعت كذلك أن تكّيف كل الصناعات المستوردة بما يلائم المجتمع المحلي، محافظة على ثقافتها الأصيلة، معطية اللمسة اليابانية والطابع الإبداعي لدى الإنسان الياباني عليها.
إن التجربة الياباني لم تكن وليدة اللحظة، وهي نموذج فريد لكفاح الإنسان وتضحيته وإصراره رغم الفشل أحيانا في سبيل تحقيق الفكرة، والمتأمل للتجربة اليابانية يدرك حتماً أن العنصر الأساسي والمهم في بناء أي حضارة هو تكوين الإنسان بداية، وإشباعه ثقافياً وتعزيز ارتباطه بالتاريخ والمجتمع ليكون في الأخير هو الحاضن الرئيسي لفكرة النهوض، والعامل الأساسي لتحقيقها. وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالاهتمام بمجال التربية والتعليم بدايةً.
إن التجربة الياباني لم تكن وليدة اللحظة، وهي نموذج فريد لكفاح الإنسان وتضحيته وإصراره رغم الفشل أحيانا في سبيل تحقيق الفكرة، والمتأمل للتجربة اليابانية يدرك حتماً أن العنصر الأساسي والمهم في بناء أي حضارة هو تكوين الإنسان بداية، وإشباعه ثقافياً وتعزيز ارتباطه بالتاريخ والمجتمع ليكون في الأخير هو الحاضن الرئيسي لفكرة النهوض، والعامل الأساسي لتحقيقها. وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالاهتمام بمجال التربية والتعليم بدايةً.